Wednesday 6 June 2012

ماذا أهديتني يا أحمد في عيد زفافنا السابع !

ماذا أهديتني يا أحمد في عيد زفافنا السابع ! - مقال لي نُشر في صحيفة الوحدوي, 21/4/1998م 

 *************

 ها قد هل الرابع عشر من مارس الذي أطلقتَ عليه مداعباً يوم " النكسة " والذي كنتُ أصر دائماً على أن نجعل منه فرصة للفرح, بينما كنتَ دائم الهروب من الاحتفال بهذا اليوم معللاً ذلك بقولك:" وهل يحتفل الإنسان بيوم نكسته ؟ ". لقد كان هذا اليوم منذ أن تزوجنا يوماً للخناق لأنك كثيراً ما كنت تنسى موعد قدومه .اتذكر انك في إحدى المرات تذكرته وذهبتَ إلى اقرب مكتبة لشراء بطاقة معايدة , وبعد أن اخترتَ إحداها وهممتَ بدفع ثمنها لم تجد في جيبك ما يكفي لشرائها بالرغم من أن ثمنها لم يتجاوز المائة ريال كما أخبرتني . وفي العام المنصرم ذكرتُك مرارا قبل حلول هذا اليوم بأنة قادم وعليك أن تستعد له وتلغي جميع ارتباطاتك, بل وأكثر من هذا هددتك بأنني لن اقبل أي عذر مهما كان وجيهاً, يومها غبت عن المنزل طوال اليوم كعادتك, وعند ما حلت الساعة التاسعة مساء جئتني بتورتة, معتذرا عن الغياب وفرحا لكوننا سنحتفل للمرة الأولى منذ ست سنوات بذكرى عيد زواجنا. يومها أيها الغالي, أعربت لك بصدق بأنها أسوأ تورته ذقتها في حياتي, كما عززت في فضيلة الصراحة. لم تكابر , بل أكدت لي ذلك مبتسماً " هذا صحيح لأنها تورته بايتة وقد اشتريتها بأبخس ثمن" ووعدتني بأنك ستحتاط في العام القادم لهذا المسألة وتأتي بشئ يليق ومقام ذكرى هذا اليوم الجميل . وهاهو العيد السابع يطل عليّ وأنا وحيدة, أكاد أتخيلك مبتسما قائلا: "هارد لك يا أمل, فمنذ اليوم لا خناقات, ولا هدايا, ولا أحمد". 

 *******

 أيها الخرافي النقاء كقطرة ندى ..المتدفق حناناً ورحمة .. صلابة وقوة..أيها المخلوق النادر... اعترف بأنك لم تكن زوجا متفانيا. فقد كنت مسكونا بوجع " الجماهير الكادحة" كما كنت ترددها في كتاباتك. لكنك كنت أبا رائعا لثلاثتنا (فراس و لؤي وأنا). كنت في خضم مشاغلك لا تنسى مواعيد الدواء أو يغمض لك جفن إذا مرض أحد الطفلين . وها أنت تخاصم النوم لأكثر من أسبوع عندما أصيب فراس بالملاريا منذ أربعة اشهر, بل كنت تقضي الليل ساهرا خشية أن ترتفع درجة حرارته بينما نحن نيام, ومن حينها لا تنام إلا بعد أن تتأكد من خلو غرفة النوم من البعوض, حتى صرت خبيرا في قتلها بشتى الوسائل, وعن بعد أيضا. وإذا ما ساورك الشك بوجود بعوضة, ترمي بغطاء النوم معرضا رجليك وساعديك بقصد قائلا: "سأدع الناموس يتعشى من دمي كي لا يتعرض لفراس ولؤي" !! وكنت تطلب مني أن أقوم بنفس الشئ ولكني بأنانية ارفض ذلك معطية لك الفرصة لتقول لي "صحيح إنك أم با لفاكس" !. تفاصيل وأحداث عشتها معك, كلها كانت تؤكد لي أنك مخلوق قادم من عالم أخر.. فلا الزمان ولا المكان كانا قادرين على استيعابك, ولهذا غادرتنا سريعا, حتى إشعار آخر. 

 ******

 كان نومك المفضل عندما تضم فراس ولؤي إلى صدرك بساعديك العريضين لتغطي نصف جسميهما النحيلين فتبدو أشبة بصدفة تضم في جوفها اللؤلؤ..لا والذي خلقك بل لؤلؤاً يضم اللؤلؤ. أيها العملاق الذي ماعرف الخوف قلبك يوما .لازال محفورا في ذاكرتي وقفتك ذات يوم في أحد اجتماعات رابطة الطلاب اليمنين في مصر في منتصف الثمانينات, كانت القاعة تغص بالعشرات من الطلاب عندما وقفت مندداً بممارسة مندوب "الرعب الوطني" في السفارة اليمنية بالقاهرة وملاحقته للطلاب المنتسبين إلى الرابطة, جاء صوتك يومها قويا مزمجرا كالأسد: "قولوا للمطهر إني لا أخافه. ولا أخاف من وصل إلى السلطة سواء عبر فوهة " "مدفع, أو رضع السلطة من ثدي أمة. وها أنت تفر من سماع صراخ طفلك متألما من ضرب الحقن ..وتفقد شهيتك للطعام, بل للحياة عند رؤيتك على الشاشة مذبحة قانا في لبنان, وجثث الأطفال المتناثرة الأعضاء. قلت لي يومها بحزن: " رأيت طفلا ملطخاً بالدماء يشبه ولدي لؤي". ثم أسرعت لتخط بقلمك الرشيق مقالة بعنوان "النتن ياهو ونتني الإقليمية العربية" وكان مضمونها صرخة مدوية في وجه الأنظمة العربية التي تشهد موت أطفالنا بنتانة لاتحسد عليها, ثم رميت بالقلم ولم تكمل, شاعرا باليأس والإحباط والعبث واللاجدوى. 

*********

 برحيلك الموجع, يا أبا بأفراس, يغيب صوت الضمير والحكمة والحق, فقد كنت الأخر" شطحة يمنية يندر تكرارها " كما كنت تردد ذلك عن الشهيد عيسى محمد سيف. يبدو أن هذا الفصل هو موسم الأحزان الكبرى, فها هو الجاوي يترجل هو الأخر قبلك بشهرين ,وتعلق على رحليه بحزن واقتضاب : "لا طعم للسياسة بعد اليوم, لقد رحل ملح السياسة عمر الجاوي". أيها المتوج أبدا أميرا للفقراء والمتعبين, كان التصاقك بهموم الجائعين يصل بك أحيانا الى حد الشطط لتصرخ يوما :" على مفتي الجمهورية ان يصدر فتوى يجيز فيها للشعب اليمني ان يفطر شهر رمضان لأنه شعب أغلبيته جائعة طوال العام" . آه أحمد .. من ذا بعدك يشدني إلى الواقع حين يجمح خيالي, كما كنت تفعل وتقول لي :"علينا أن نحمد الله لأننا لا نزال نتناول ثلاث وجبات بينما هناك آلاف الأسر تقاتل من اجل الفوز بوجبة واحدة في اليوم على الأكثر". 

********

 لقد كنت عبقريا ولم تصبك جنون العظمة, وفقيراً و لم تمسك عقدة النقص, ومعارضاً ولم تنزلق في فخ المعارضة المستأنسة, ومثقفاً عصرياً لم تعان من شيزوفرونية السلوك والانتماء. (لو أجدبت الديمقراطية في البلاد كلها سيكون منزلنا الصغير واحة ديمقراطية). واشهدا لله أنك لم تخل ولم تنقض وعداً قطعته. أما روحك الخفيفة الساخرة والراقية بإنسانية لا مثيل لها, فقد كانت تختفي وراء هدوئك وصمتك المثير للاحترام والهيبة أمام ثرثرات البعض, كنت بمجرد أن تطأ قدمك باب المنزل حتى يستحيل الضجر والملل إلى مظاهرة للمرح, كنت بتعليقاتك الساخرة وقفشاتك المضحكة تضفي على المنزل عبقاً مميزاً وترسم على وجوهنا ابتسامات بعرض السماء. لن أنسى يوما شاهدنا فيه معاً على القناة المصرية احد المسؤولين المصريين يقص شريط افتتاح مشروع ربط نهر النيل بالوادي الجديد ,يومها قلت :" هذه هي الدول التي تبني مستقبلها بمشاريع إستراتيجية كهذه, ستخلق مصر أخرى على ضفاف الوادي الجديد". ثم أردفت مقارناً لما يجري هنا بقولك: "أما نحن في اليمن السعيد فمسؤولونا الكبار كل واحد فيهم يحمل مقصاً في جيبه بشكل دائم كالحلاقين, وكل يوم نراهم يتسابقون لقص شريط افتتاح دكان أو بقالة أو مخباره". لذالك أيها الطيب كنت أغار كثيراً من زملائك وأصدقائك عندما كنت تقضي معهم معظم أوقاتك ,وقليلة جداً هي اللحظات التي تقضيها معنا, ومع هذا فقد كان حضورك طاغياً و كثيفاً. هل يعقل ألا أسمعك بعد اليوم مرتلا .."يأيها الوطن المسدس في دمي قاوم " و " لا غرفة التحقيق باقية, لا ولا زرد السلاسل..نيرون مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل " و"مخلف صعيب لكن قليبي ماهنش". كنت تمتلك روحا شفافة وخفيفة بتلقائية وعفوية مفرطة..كم كان يحلو لك استفزازي لتضحك كثيرا لردود فعلي الآنية, كنت تكرر "دعيني الملم الليل عن شعرك".. حتى إذا ما صحى في غرور الأنثى تتدارك ميمننا العبارة ومتصرفا فيها بقولك : "خليني اشغم الفجر عن شعرك" مشيرا إلى الشعيرات البيضاء التي بدأت تغزوا رأسي .وعندما تتأكد من حنقي تسترضيني بقولك : "لا عليك إن الجليد دائما ما يسكن القمم". كنت تردد لأصدقائنا المشتركين :"في هذا البلد يتعبني شيئان: سيارة أمل وسياسة على عبد الله صالح, أما سيارتي "الشقداف "كما لقبتها لأنها كانت مسؤوليتك تغيير عجلة السيارة وكثيراً ما كان يزعجك ذلك وخصوصا في الصباح الباكر. أما سياسة علي عبد الله صالح فذلك لأنك لم تخلق إلا لتعلب دورا قياديا في صناعة التاريخ مع كوكبة من الشرفاء, ولتشارك في عملية التغيير السياسي والاجتماعي وبناء الوطن الحلم, وكنت تقول : "إذا ما قدر لتنظيمنا الناصري أن يشارك في الحكم فسانخرط مرة أخرى في صفوف المعارضة" لأنك كنت تتمثل مقولة الأفغاني, على ما اعتقد, بأن "على المرء ألا يضعف امام إغراءات المال والسلطة والنساء". 

 ********

 وجدتك ذات يوم مسكوناً بالغيظ حينما بحت لي بقولك :"لقد تابعت الأخبار في معظم الفضائيات العربية والأجنبية وقت زيارة الرئيس إلى جنوب شرق أسيا, ولاحظت التعتيم الإعلامي من قبل هذه القنوات, خصوصا عند زيارة الرئيس لدولة عظمى كالصين, هذا التجاهل مهين ومقرف" , فعقبت على ذلك بقولي :"هل اعتبر ردة فعلك هذه بداية صلح بينك وبين سياسية الرئيس؟ ", فأجبت قائلا وبصدق : "بغض النظر عن موقفي من سياسته فهو في الأخير رئيس الدولة التي إليها أنتمي وهي دولة لها ثقلها التاريخي والحضاري, كما أن لها دوراً مستقبليا منتظراً, أن هذا التغيب المقصود قبل أن يكون إهانة للنظام هو إهانة لكل اليمنيين ". كم كنت خصماً شريفاً ووطنياً غيوراً, جئت عالمنا هذا كما قال مكسيم غوركي " كي تقول لا "! وكم كانت لاءاتك كثيرة :لا للتركيع, لا للتدجين واستلاب الحق والكرامة, لا للدجل والنفاق والانتهازية السياسية, لأنك لم تكن مكيافيلي التوجه بل ناصري الانتماء لتؤكد على " أن الوسيلة لابد أن تتسامى شرفا مع نبل الغاية ".

 ********

 كنت تناضل كي تكون المعارضة قوية, وتقول: "نريد معارضين حقيقين لا مشاقر تتجمل بها السلطة- أية سلطة – في فاترينات العهر السياسي". وكنت تؤمن بأن تتطور النظام السياسي على نحو ديمقراطي لن يتم إلا بوجود معارضة قوية غير مهرولة. 

 ********

 يقولون إن الحزن يبدأ كبيراً ثم يصغر..أما أنا فأشعر بعكس ذلك, فها أنا اليوم أعيد لملمة أنفاسي وإتزاني لأجد خارطة حزني تتسع يوماً بعد يوم.. أواه يا رفيق عمري!! ماهذا الحزن الذي يشرخ الروح ويفتت الفؤاد وينذر باعتقال الفرح في قمقم مفتاحه مفقود !! ثم ما جدوى الفرح أو النجاح وأنت منزوع منا !!.. بعدك أيها النبيل, تتساوى الأشياء ويتشابه الرجال ..ولا أجد فرقا بين طعم العلقم والعسل. لقد رددت حادثة موتك كثيرا ..وفي كل مرة كان يخيل إلي بأنني أحكي موت شخص أخر ليس أنت..أنت أيها الخالد لم تمت لأنك تسكن أحداقي وأحداق من أحبوك وعشقوا كاريزميتك المغرقة في البساطة. طلب منك ذات يوم أن تعرف بنفسك في أحدى الندوات في القاهرة بعد أن أدرت الرؤوس وشنفت الآذان لقوة منطقك وتسلسل أفكارك وبلاغة تعبيرك, فما كان منك إلا أن ترد متواضعا: " أنا من تلاميذ صوت العرب يوم أن كان للعرب صوت " متجاهلاً ذكر اسمك . أيها الفارس لا لم تمت فها أنا لازلت انتظرك يوميا وكأن ما حدث كابوس سأفيق منه قريبا وستطل عليّ من جديد لتسألني بعد التحية وكالعادة "هل تعشى الأولاد قبل أن يناموا ؟". يا أنت..يا أيها "الجرح المكابر"..أنت فقط سافرت دون وداع كعادتك, ودون أن تترك عنوانا أو ميعاد عودتك, ستعود ذات يوم ربما بنفس الوجه وربما بوجه أخر واسم أخر؛ لأنك برغم التردي الذي يحيط بنا, كانت لديك قناعة راسخة بأنه " لازال في بلدنا رجال من ذهب " وسيتحقق الحلم بوطن عادل للجميع . 

 ********

 لم تكن تدرك, أيها الطفولي ,الأحلام أنك تذرف دموع عمرك الأخيرة عند وفاة طفلتنا (ندى) التي سبقتك بأقل من أربعة أسابيع, كانت مفاجأة لي أن أراك تبكي كطفل , لا بل تنتحب كثكلي مع انه طوال السنوات السبع التي قضيتها معك لم الحظ دمعة واحدة في عينيك, رغم أتراح الحياة الكثيرة..فقط رأيت دمعة متحجرة في عينيك صباح إعلان الانفصال من قبل علي سالم البيض..وقتها قلت بصوت مبحوح :"هذا الرجل يرتكب خطأ العمر ويخسر المعركة ". قلت هذا لأنك شعرت بمحاولة اغتيال حلم عمرك "الـوحـدة". 

 ********

 وعدا أخر لم يسعفك الزمن بالإيفاء به يا أبا فراس .. وعدتني مازحا بإقامة عزاء فخم عند وفاتي وقلت أيضا: "شاسكعك عمود (خالدات) ما حصلش" على غرار عمود "الخالدون" الذي كان في بداية إصدار صحيفة "الـوحدوي". عزائي الوحيد ,يا كل الحب وكل العمر والنقاء ..هي تلك السنوات التي قضيتها إلى قربك حيث أكرمني الله بها .ولقد كان العيش بقربك تطهرا ,والإصغاء إلى حديثك تقربا إلى الله .. تلك السنوات تطوي كأنها غمضة عين أو بضعة أيام لا أكثر . هناك أيضا فراس حبيب بابا, ولؤي حبيب بابا, يعطران المنزل بنفحات من بعض روحك وذاتك السامية. كلمة أخيرة ".. 

ولرب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل ".

No comments:

Post a Comment